بين سطور كِمِت “7”

ما زلنا مع الحديث عن الحضارة المصرية القديمة وكيفية التفاعل معها، فأرجو من القارئ العزيز مراجعة الحلقات السابقة من هذه السلسلة.

على الإفريز الداخلى للمحكمة العليا الأمريكية، توجد منحوتات تمثل أعظم المشرعين عبر التاريخ، بين هؤلاء يوجد نحت لملك مصرى قديم.. إنه الملك حورمحب.

لو أنك ممن يؤمنون بـ “الكليشيهات” عن ملوك مصر القديمة، من نوعية “الفرعون الطاغية الذى لا يُسأل عن أعماله وكل ما يريد هو الحكم والتسلط على رقاب العباد”، فإقرأ قصة الملك حورمحب لتعرف كذب تلك الصورة النمطية:

كانت وفاة الملك العظيم أمنحتب الثالث بداية لمرحلة صعبة من التاريخ المصرى القديم، فالتهديد هذه المرة لم يأت من خارج حدود مصر وإنما من داخلها، بل من داخل القصر الملكى نفسه.

فالملك الجديد أمنحتب الرابع، لم تمض سنوات من عهده إلا وقد تنكر لكل موروثات أسرته ودولتها وعلى رأسها الإله نفسه، فبعد أن كان “آمون” هو إله “طيبة” ورمز تحرير مصر على يد الملك أحمس – مؤسس الأسرة الحاكمة الثامنة عشرة التى ينتمى لها الملك – وإنما أطاحت به وبسائر الآلهة أوامر الفرعون الذى غير اسمه إلى “أخناتون” ووضع إلهه آتون إلها وحيدا إجباريا لمصر، وانتزع من المعابد ممتلكاتها من أراض موقوفة عليها وثروات اعتاد الملوك الإغداق بها عليها، ومنع إقامة أية تماثيل للآلهة وأية طقوس شعائرية لا ترتبط بآتون، فأغضب بذلك ليس طبقة الكهنة فحسب، بل كل من ارتبطت أعمالهم من عامة الشعب وخاصة الحاكم بتلك العبادات، فضلا عن جرح المصريين فى مشاعرهم الدينية وتعلقهم بآلهتهم، وهى واحدة من أخطر الحماقات: أن يخاطر أحد باستفزاز المصرى فى دينه.

لم تكن تلك هى المشكلة الوحيدة، وإنما تبع ذلك قيام أخناتون بهجر العاصمة التاريخية العظيمة طيبة إلى عاصمة ملكية جديدة هى آخت آتون، وتزامن ذلك مع إهمال فاحش منه لما توارثه أجداده من اهتمام خاص بنطاق الأمن القومى المصرى الممتد من شمالى الشام إلى النوبة العليا ومن صحراء ليبيا إلى البحر الأحمر، ولئن كان عهد أبيه أمنحتب الثالث عهدا للاسترخاء العسكرى، إلا أن الملك الراحل كان من القوة والهيبة بحيث فرض طاعته على كل الحكام المحليين المحيطين بمصر، وعلى رأسهم أمراء الحرب المشاغبون فى بلاد الشام.

المطالع للرسائل المعروفة بـ “رسائل العمارنة”، وهى الأرشيف الدبلوماسى لتلك الفترة والذى اكتُشِفَ بالصدفة فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر، يجد رسائل تستغيث بملك مصر من أعمال الأمراء المشاكسين الذين كدروا أمن المنطقة وتحالف بعضهم مع مملكة خيتا/الحيثيين المنافسة لمصر من الأناضول على السيادة على الشام.

كان من الطبيعى إذن أن ينتهى عهد أخناتون بثورة عارمة، لم تقتصر على الكهنة فحسب مثلما يروج البعض، وإنما شملت مختلف طبقات الشعب، وراح أتباع أخناتون ينسلون من حوله حتى انتهى الأمر بسقوطه وحيدا بشكل يشمله الغموض وإن كان البعض يرجحون أن نهايته لم تكن سلمية على فراشه.

كانت الدائرة المحيطة بأخناتون تنقسم بين منافقين منتفعين ادعوا الإيمان بآتون لينالوا الحظوة، أو مؤمنين حقا برسالة الملك المتنبى وبإلهه الواحد، وبين هؤلاء وأولئك كان يقف رجل متميز: القائد حورمحب.

لم يكن حورمحب منافقا متملقا، ولم يكن كذلك مؤمنا بآتون، وإنما كان ببساطة: جنديا.. كان قد خدم فى الجيش فى عهد الملك الراحل أمنحتب الثالث، ثم بلغ منصب القيادة العليا فى عهد خلفه أمنحتب الرابع/ أخناتون، وعندما أشعل هذا الأخير ثورته الدينية لم يعبأ حورمحب بالانخراط فى الصراع، فقد كان ينظر لنفسه باعتباره مجرد جندى مسؤول عن أمن وسلامة مصر، وأنه ملتزم بواجبه بغض النظر عن هوية الجالس على العرش طالما كان مصريا.

متى كانت تلك اللحظة التى وجد حورمحب نفسه فيها مضطرا للتخلى عن حياده والانخراط فى الأزمة؟ ربما عندما جاءت الأخبار من الجبهة الآسيوية بتمرد هنا وانشقاق هناك وبسقوط حلفاء مصر من الأمراء المحليين واحدا تلو الآخر، وحلول عملاء مملكة خيتا محلهم، أو عندما استغل الفاسدون والمجرمون فى الداخل انشغال الملك بعباداته وأناشيده عن إدارة الحكم، فبغوا وعتوا وراحوا يروعون الناس وينشرون الظلم حتى تكاد “ماعت” إلهة الحق والعدل والاستقرار تئن كمدا، أو ربما عندما تيقن أن فوضى الداخل وتهديد الخارج سرعان ما تؤدى لطرق جيوش خيتا الغازية أبواب مصر نفسها!

ليس معروفا متى اتخذ حورمحب قراره، لكن المعروف أنه قد أعلن تخليه عن أخناتون عندما أدرك خطورة بقاء هذا الملك على عرش مصر.

ربما يرانى البعض أقسو على أخناتون، ويدافعون عنه مستشهدين بأناشيده المؤثرة البليغة وبفلسفته الراقية، لكنى وإن وافقتهم فى عظمة تلك الفلسفة وجمال تلك الأناشيد، إلا انى أذكرهم أن أخناتون صفته التاريخية هى “ملك مصر”، فمن هذا المنطلق يأتى تقييمى له، لا من فلسفته الدينية ولا مواهبه الشعرية.

وعودة لحورمحب، فإن رجال الدولة بعد سقوط أخناتون تلفتوا فلم يجدوا من يملأ فراغ العرش، فأخناتون لم يترك وريثا سوى طفل فى التاسعة هو ابنه توت عنخ آتون.. واتجهت الأعين لحورمحب فى مطالبة ضمنية بجلوسه على العرش..

لكن حورمحب كان معروفا بتشدده فى التزام القانون، فأبى أن تخالف قواعد وراثة الحكم، وهكذا تم تنصيب توت عنخ آتون ملكا، وغير اسمه إلى توت عنخ آمون فى خطوة قطيعة مع هرطقة أبيه ومصالحة مع كهنة آمون.

ترك حورمحب الملك الطفل توت عنخ آمون تحت وصاية الوزير آى، وهو عسكرى سابق ترقى فى المناصب حتى أصبح وزيرا أولا فى عهد كل من أمنحتب الثالث وأخناتون وثمة آراء تقول بقرابته للملكة تى قرينة أمنحتب الثالث وأم أخناتون، وآراء أخرى تقول بقرابته لنفرتيتى زوجة أخناتون، صار آى راعيا وموجها للسياسة الداخلية للدولة بينما اضطلع حورمحب بالسياسة الخارجية، وراح يكافح بردع أمراء الحرب المشاغبين فى الشام ويحاول استعادة ما يمكن من نفوذ مصر على الجبهة السورية.

أمضى توت عنخ آمون، الذى كان معتل الصحة ضعيف البنيان، تسعة أعوام على عرشه، ثم توفى بشكل مفاجئ، يرجح أنه بسبب التهاب وتلوث إصاباته إثر سقوطه من فوق عجلته الحربية خلال رحلة صيد.

هنا تكررت أزمة فراغ الحكم، وعادت الأنظار تتجه لحورمحب، ولكن حورمحب كان لديه رأى آخر.
وللحديث بقية إن شاء الله فى المقال القادم.