ظلٌّ لا يزال يمتد إلى حاضر عام ٢٠٢٥ المُتقلب… لم تكن الهجمات على مركز التجارة العالمي ومبني البنتاغون في الحادي عشر من سبتمبر مجرد لحظة صدمة تاريخية فريدة؛ بل كانت حافزًا لإعادة تشكيل جذرية للسياسة الخارجية الأمريكية وإعادة تعريف علاقتها بالعالم العربي.
أطلقت واشنطن بعد تلك الأحداث “الحرب على الإرهاب” التي تلت ذلك سيلًا من التدخلات العسكرية وبرامج المراقبة وإعادة ترتيب المواقف الجيوسياسية، والتي يمكن القول إنها بلغت ذروتها فيما يراه الكثيرون في العالم العربي حالة من الإرهاب الدائم من قبل واشنطن.لذا، فإن الأحداث المأساوية الأخيرة في غزة ليست أزمة معزولة، بل هي حصادٌ قاتمٌ ومتوقعٌ لبذورٍ زُرعت تحت أنقاض أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
اتسمت الفترة التي أعقبت هجمات الحادي عشر من سبتمبر مباشرةً بمزيجٍ قوي من الخوف والحزن والتعطش للانتقام، لقد صاغت هذه البوتقة العاطفية “الحرب على الإرهاب”، وهو نموذجٌ وضع العالم في ثنائيةٍ مانويةٍ صارخةٍ بين “نحن وهم”… وقد حطمت غزوات أفغانستان والعراق، القائمة على فكرة الحرب الاستباقية، توازن القوى الدقيق في الشرق الأوسط، وأطلقت العنان لغضبٍ طائفيٍّ لا يزال مستعرًا.
وقد تحول استخدام حرب الطائرات المسيرة، التي رُوِّج لها في البداية على أنها أداةٌ دقيقةٌ للقضاء على الإرهابيين، إلى حضورٍ واسعٍ في سماء العديد من الدول العربية، ناشرةً الخوف والاستياء بين السكان المدنيين الذين يعيشون تحت التهديد المستمر بالإعدام خارج نطاق القضاء.
وأصبح هذا “الموت من السماء” رمزًا قويًا للتجاوز الأمريكي ومصدرًا عميقًا للصدمة النفسية لمجتمعاتٍ لا تحصى.
لقد كان تطور “الحرب على الإرهاب” إلى المشهد الحالي لعام ٢٠٢٥ عمليةً من التوسع في المهام والتقدم التكنولوجي، اتسع نطاق التركيز الأولي على تفكيك تنظيم القاعدة ليشمل مجموعة واسعة وغامضة في كثير من الأحيان من التهديدات المتصورة، بدءًا من الجماعات المسلحة الراسخة وصولًا إلى الحركات السياسية الناشئة التي تتحدى الهيمنة الأمريكية.
وقد تحولت دولة المراقبة “واشنطن” ، التي نشأت نتيجة قانون باتريوت”، وهو (قانون أمريكي وُضع عام 2001 بعد هجمات 11 سبتمبر، بهدف مكافحة الإرهاب و منح وكالات الاستخبارات وسلطات إنفاذ القانون صلاحيات موسعة لجمع المعلومات، ومراقبة الاتصالات، وتسهيل تبادل المعلومات الاستخباراتية) … إلى شبكة عالمية واسعة النطاق، حيث تراقب وكالات الاستخبارات الأمريكية اتصالات وأنشطة ملايين العرب تحت ستار الأمن القومي.
بالنسبة للكثيرين في العالم العربي، لا يقتصر “الإرهاب” على تهديد الجماعات المسلحة فحسب، بل يتمثل أيضًا في إدراكهم المخيف بأن حياتهم تحت رقابة مستمرة وأن تطلعاتهم السياسية تُحبط بشكل منهجي من قبل قوة عظمى بعيدة.
ويُمثل التصعيد الأخير للعنف في غزة نموذجًا مصغرًا مأساويًا لهذه الديناميكية الأوسع، لقد تفاقم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني المستمر منذ عقود، والذي يُمثل جرحًا نازفًا في قلب الشرق الأوسط، بسبب دعم واشنطن الدبلوماسي والعسكري الثابت لإسرائيل.
هذا الدعم، الذي غالبًا ما يُصوَّر على أنه التزام راسخ تجاه حليف رئيسي، يُنظر إليه من قِبل العديد من العرب على أنه ضوء أخضر لاستمرار قمع الشعب الفلسطيني، لذا، لا يمكن فصل الأزمة الحالية في غزة عن السياق الأوسع لعالم ما بعد 11 سبتمبر.
وتُوظَّف لغة “مكافحة الإرهاب” مجددًا لتبرير العقاب الجماعي، وتُدمج المظالم الحقيقية للشعب الفلسطيني في سياق “الحرب على الإرهاب” الشامل.
أما المجتمع الدولي، المُنهك والمُنهك من عقود من الصراع، فلا يُقدم سوى عبارات مبتذلة، بينما يُترك شعب غزة ليتحمل العواقب الوخيمة للعبة جيوسياسية بدأت في صباح من شهر سبتمبر قبل ما يقرب من ربع قرن.
ختاما ً، إن الخط الذي يربط أحداث 11 سبتمبر 2001 بالوضع الراهن في العالم العربي والأزمة الأخيرة في غزة خطٌّ مباشر ومدمر، لقد أصبحت “الحرب على الإرهاب”، التي وُلد صداها في لحظة صدمة، محركًا مُستديمًا للصراع وعدم اليقين، ومازلت شبحًا يُخيّم على الشرق الأوسط ويستمر في إزهاق أرواح الأبرياء.
وإلى أن تُعيد واشنطن حساباتها بشأن الإرث العميق والمدمر لسياساتها التي تلت 11 سبتمبر، فمن المرجح أن تستمر دائرة العنف والاتهامات المتبادلة، وسيزداد شبح ذلك الصباح المشؤوم من سبتمبر طولًا وظلمةً.
إرسال تعليق