حقيقة أننى ما أتوقف دوما أمام سؤال جوهرى يشغلنى -ويشغل الكثيرين غيرى- وهو: ما هى أبعاد الأمن القومى المصرى وسط كل هذه التحديات التى تعيشها مصر؟
قد يبدو السؤال بسيطاً، لكنه يحمل فى طياته إجابات كبيرة وتفاصيل أعقد مما يتصور البعض.
الرأى العام كثيراً ما يتوقف عند التحديات ومصادر التهديد، لكنه نادرا ما يتعمق فى فهم جذور تلك التحديات وامتداداتها.
الحقيقة أن مصر – على مر تاريخها القديم والحديث – كانت وستظل دولة مهددة، غير أن طبيعة التهديدات هى التى تختلف من عصر إلى عصر، ومن زمن إلى زمن. ففى العصور القديمة كانت الحروب تقليدية ومعارك حدودية واضحة، أما فى عصرنا الحالى فقد تنوعت أشكال الحروب، فلم تعد مجرد مواجهات عسكرية تقليدية، بل ظهرت الحروب غير المباشرة منها حروب الجيل الرابع والخامس، الحروب الاقتصادية، الإعلامية، السيبرانية، وحتى الحروب المرتبطة بالموارد والهوية الثقافية وتغيير الصور الذهنية للشعوب!
مع تغير طبيعة الحروب، تغيرت – أيضاً – أبعاد الأمن القومى المصرى، ففى الوقت الراهن تواجه مصر تهديدات غير مسبوقة من الجهات الاستراتيجية الأربعة، وهو أمر يحدث لأول مرة فى تاريخها الحديث، كل اتجاه من هذه الاتجاهات يمثل خطراً مختلفاً، وتحدياً قائماً أمام الدولة المصرية، مما يجعل معادلة الأمن القومى أكثر تعقيداً وتشابكاً.
إدراك هذه الأبعاد ليس ترفاً فكرياً، بل ضرورة وطنية لفهم موقع مصر الحقيقى وسط محيط إقليمى ودولى يموج بالصراعات، ولإدراك حجم الجهد المبذول للحفاظ على أمن واستقرار الدولة فى ظل عالم لم يعد يعرف الثبات أو اليقين.
قبل سنوات طويلة، التقيت المرحوم اللواء أ.ح فؤاد نصار مدير إدارة المخابرات الحربية والاستطلاع أثناء حرب أكتوبر المجيدة لتسجيل مذكراته أو ذكرياته عن الحرب وسنوات الإعداد لها، فى كل جلسة من جلساتنا كان يفاجئنى بأسرار جديدة، ولكنه كان دائمًا يجيب على قدر السؤال.
فى كل مرة كنت أراقبه جيدًا، وهو يتحدث.. ويفكر بعض الشيء قبل الإجابة.. كان حريصًا -رحمه الله- على التأكيد أن مذكراته الشخصية وآراؤه حول مواقف محددة، وخاصة خلال حرب أكتوبر هى ملك للتاريخ، وأنه دونها بالفعل وستظهر حينما يحين الوقت لذلك.
كان اللواء فؤاد نصار لا يفضل الحديث كثيرًا عن “التاريخ”.. بل يريد الحديث عن “الجغرافيا” والواقع الذى نعيشه الآن.. رغم أن الاثنين متصلان ببعضهما البعض فلا “جغرافيا” بلا تاريخ.. ولا “تاريخ” بلا جغرافيا.
فى إحدى الجلسات رأيت – أن يكون الحديث عن التاريخ والجغرافيا معًا.. عن التاريخ والذين صنعوا هذا التاريخ.. وانعكاس هذا التاريخ على واقعنا الحالي.
سألته سؤالا واضحا ومباشرا : للمخابرات دور رئيسى ومهم فى الحروب.. أو كما يطلق البعض عليها “حروب المخابرات”.. كيف ترى هذه الحروب ؟
فأجاب : أى حرب مهما كانت تكون لها بداية ونهاية إلا حرب المخابرات، فحروب المخابرات حرب مستمرة ليس لها أى نهاية.. لكن أسلوب عملها ووسائلها تختلف طبقًا للموقف والحاجة.. لأن مهمتها الرئيسية هى الحصول على معلومات عن العدو ومنعه – فى نفس التوقيت – من الحصول على معلومات عن قواتنا. ومعنى هذا أننا بصفة مستمرة نحارب للحصول على معلومات، ونمنع العدو من الحصول على معلومات عنا. وهذا لا يتوقف على أن هناك حربًا أم لا.. فرجال المخابرات يعيشون طوال حياتهم فى حرب، ومع ذلك فإن المخابرات هى الجندى المجهول فى أية حرب، فهى التى تعمل فى صمت وسرية لجمع المعلومات عن العدو فى مختلف المجالات وتدققها وتحللها للخروج باستنتاج عن قوة العدو وتسليحه واستخداماته بل نواياه وردود أفعاله؛ أى أن المخابرات تقوم بتقديم جميع المعلومات التى يتم على أساسها وضع خطط القيادة. وليس هذا من مسئولية المخابرات فقط، بل من مسئوليتها منع العدو من الحصول على معلومات عن قواتنا ونواياه فإذا نجحت العملية أدت المخابرات واجبها، وإذا فشلت أو تعثرت يلقى العبء على المخابرات لفشلها فى الحصول على المعلومات فى الوقت المناسب أو عدم دقة المعلومات. وهذا ما فعلته إسرائيل عقب هزيمة أكتوبر عام 1973 حيث قامت بتشكيل لجنة أطلق عليها اسم لجنة “أجرانات” للتحقيق فى أسباب الهزيمة. وقالت هذه اللجنة فى تقريرها: إن من الأسباب الرئيسية فى أسباب الهزيمة هو ايلى زعييرا مدير المخابرات العسكرية على الرغم من أن الهزيمة كانت هزيمة لكل مؤسسات الدولة وليس للمخابرات العسكرية فقط..
إرسال تعليق